علم نفس

مدونة تعنى بعلم النفس, يحررها محمود زيد


من الظواهر الراسخة وشديدة الدلالة على فطرية المفاهيم الأخلاقية، ما يُعرف بظاهرة العزوف عن زواج المحارم Incest Avoidance.

ولا يقف تحاشي هذه العلاقة عند الإنسان، بل يمتد إلى الحيوانات، وأيضا النباتات! مما يعني أن لهذا المفهوم الأخلاقي فائدة بيولوجية.

ولتفسير هذا العزوف، يطرح علماء الإجتماع ما يُعرف بتأثير ويسترمارك، Westermarck effect، الذي يوضح أن "الأطفال الذين تربّوا معا لا تنشأ بينهم مشاعر جنسية، حتى ولو لم يكونوا إخوة". ونلاحظ ذلك في عائلاتنا، عندما يُطرح أمر زواج شاب من فتاة تربّيا معا (قرابة أو جِيرة)، كثيرا ما يُجيب أحدهما: إني أشعر كأنه أخي، أختي.

هناك اتفاق في الأوساط العلمية على إرجاع تأثير ويسترمارك إلى العوامل البيولوجية في المقام الأول، فقد ثبت أن هناك مواد كيميائية تُفرز في عرق كل منا، تُعرف بالفيرومونات Pheromones، يستقبل رائحتها المحيطون، فتؤثّر على مراكزهم المخية المسؤولة عن الميل إلى الجنس الآخر. وقد يؤدي هذا إلى زيادة الميل بين غير الأقارب فينشأ الحب، كما يؤدي إلى ظهور تأثير ويسترمارك بين من تربّوا معا.

وقد ثبت أن حساسية الدوائر المخية لنوع معين من الفيرومونات مدموغة في جيناتنا، وكلما ازدادت درجة القرابة كان العزوف الفطري أشد.

المصدر: نقلا عن كتاب رحلة عقل للدكتور عمرو شريف.
في الصورة أعلاه يظهر إدوارد ويسترمارك. 



في السنوات الأخيرة، تطرّق اهتمام علماء النفس إلى أنواع من الذكاء لا تقوم على القدرات العقلية للتحصيل الدراسي، فظهرت عدة نظريات في هذا المجال، أهمها نظرية الذكاء المتعدد Multiple Intelligence Theory لهاورد جاردنر Howard Gardner.

أثبتت نظرية جاردنر أنه لا يوجد نوع واحد من الذكاء الإنساني، بل توجد عدة أنواع من الذكاء، يشكل كلٌ منها نسَقا مستقلا خاصا به، ويشغل كلٌ منها مركزا مستقلا في المخ تم تحديده بالفحوصات الإشعاعية الحديثة.

طرح جاردنر في نظريته ثمانية أنواع من الذكاء، ثم أتبعهما بنوعين آخرين (هما مجال اهتمامنا)، وهما الذكاء الروحي Spiritual Intelligence  والذكاء الوجودي Existential Intelligence ، ويهتمان بالقضايا فوق الحسية وبالقضايا الأساسية للوجود الإنساني.

وخلال العشر سنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، ازداد اهتمام الباحثين في علوم المخ والأعصاب وعلم النفس وعلم الإجتماع والديانات، بالذكاء الروحي بشكل كبير.

ويمكن فهم المقصود بالذكاء الروحي بمقارنته ببعض أنواع الذكاء الأخرى:
·       الذكاء المنطقي: يختص بأفكاري
·       الذكاء الإنفعالي: يختص بمشاعري
·       الذكاء الروحي: يختص بمن أنا؟

ومثل الكثير من المفاهيم غير المادية، يصعب وضع تعريف للذكاء الروحي. لكن يمكن فهم المقصود بالذكاء الروحي من خلال معرفة المكونات التي يقوم عليها، وكذلك من خلال ملاحظة مردود هذا الذكاء على حياتنا.

مكونات الذكاء الروحي:
1- الوعي بالذات: معرفة معتقداتي، وموقعي من الوجود، ودوافعي العميقة.
2- إدراك أن العالم المادي جزء من حقيقة أكبر، تربطنا بها علاقات.
3- القدرة على طرح الأسئلة المعرفية النهائية، والقدرة على فهم الإجابة عليها، مثل حقيقة الروح.
4- القدرة على التسامي على المفاهيم المادية، إلى مستوى أرقى وأسمى وأعمق.
5- الحياة تبعا للمبادئ والعقائد والمُثُل.
6- أخذ المفاهيم الروحية في الإعتبار في تعاملاتنا اليومية.
7- امتلاك قناعة شخصية تجاه الأمور، وإن اختلفت مع الأغلبية.
8- التواضع، وإدراك حجمنا الحقيقي في العالم، والشعور بأننا أفراد من فريق.
9- قبول الآخر المختلف عنا.
10- الإستجابة لنداء الفطرة لمساعدة الآخرين.
11- الإستقامة الأخلاقية، والتمسك بالعفة والطهر.
12- الشعور بأن سعادتي تنبع من داخلي، وليس من الإنجاز العملي أو المادي.
13- نفاذ البصيرة وقوة الحدس.

مردود الذكاء الروحي على سلوكنا وحياتنا اليومية:
1- التعامل الحكيم مع المحن والشدائد، بدلا من الغضب الأعمى وإلقاء اللوم على الآخرين.
2- إتخاذ مواقف إيجابية عند مواجهة المشاكل.
3- الشكر على كل شيء، حتى المحن.
4- عدم التعامل بأنانية.
5- رؤية الجمال الداخلي في كل شيء.
6- التماس الأعذار، وقبول الإعتذار من الآخرين.
7- الشعور بالحنو والشفقة عند التعامل مع الآخرين.
8- المحافظة على البيئة.
9- إستخدام الأشياء بحكمة ورفق وعدم تبديدها، وصيانتها، وإعادة تدويرها.
10- ترك أي مكان أفضل وأنظف مما كان عليه عند التردد عليه.

ونلاحظ من تأمل هذه المكونات وهذا المردود أن قياس معامل الذكاء الروحي أمر شديد الصعوبة، ولكنه ليس بالمستحيل، فقد تم وضع عدد من الإختبارات لقياس هذا الذكاء.

وليس بالضرورة أن يرتبط الذكاء الروحي بالإيمان بديانة معينة. فربما يتمتع الإنسان بقدر كبير من الذكاء الروحي ولا ينتمي لدين. وربما يكون من المتعصبين الدينيين، بينما نصيبه من الذكاء الروحي قليل.
المصدر: نقلا عن كتاب رحلة عقل للدكتور عمرو شريف. 


مين، إنتا مين، تاتيجي و تحاول تغيّرني، تا أرضيك"
منا مبسوط فحالي، سيبني أعيش حياتي غير طبيعي

وين، قلّي وين، بتلقا في بني آدم سليم، مستحيل
ما كلنا ممزوجين، لسّاتنا فطفولتنا عايشين، مرعوبين

ليش، قلّي كيف، منضلّ نحكي فأخطاء ناس تانيين، والله عيب
ما كلنا فينا بلاوي، بأمراضنا النفسيّة مهوسين، إنت مين

ياريت، بس يا ريت، نرجع زي هاي الطفلة نعيش، ببراءة
"والحياة آخر همنا، نرجع نتربى من أول جديد، من دون تهديد



إن كلمة "الطفولة" ترتبط عند أغلب الناس بالبساطة والسذاجة ولربما هي ترتبط مباشرة بالبراءة، وعندنا يمكن أن ترتبط أيضا بقلة الحيلة وقلة العقل (في مجتمعنا يقولون إذا أخطأ الولد: دعه فما زال جاهلا!). وما إن يدخل الولد في مرحلة المراهقة حتى يجرّه المجتمع بأسرع الطرق من أجل الدخول في معارك الحياة الكثيرة، فينتقل الطفل من عالم بسيط، نواياه حسنة إلى عالم مُركّب، يستدعي اليقظة والإنتباه لأنّ المكائد كثيرة، وأضرب أمثلة مثل: منذ الصغر يتم تلقين الطفل أن الكذب حرام ونأتيه بالقصص التي تبيّن عاقبة الكاذب ونأتيه بآيات قرآنية وفصول من التوراة والإنجيل، ومن ثم عندما يصل إلى مُعترك الحياة، يخبره والده الذي يملك مصلحة تجارية أنه لا يجب أن يُظهر جميع أرباح المحلّ حتى لا يدفع كل الضريبة المطلوبة، وكذلك إن سئله شرطي وقال له: هل كنت تقود السيارة مع حزام أمان، فإن مجتمعنا يوحي إليه أن أكّد ذلك بالإيجاب وإن لم يكن صحيحا حتى تفرّ من عقوبة الشرطي، وعندما تذهب العائلة إلى مدينة "الملاهي" فإن الأب يوصي ابنه الذي تعدّى سنا معيّنا بأن ينكر ذلك حتى لا يدفع عند الدخول! ومن ثم يأتي البعض فيحصر تفكيره في كذبة الأول من نيسان مع أن المسألة هي أكبر وأوسع.

أما البراءة فإنها تنعكس، على سبيل المثال، عندما يفكّر الطفل بالممرضة التي تعالجه على أنها وُظّفت من أجل خدمته وإخراجه من ضائقته وتخفيف ألمه، أما من ماتت فيه براءة الطفولة فإنه لربما ينزلق إلى تفكيرات جنسية بخصوص الممرضة، ولهذا كان الدين وكانت الضوابط التي وضعها الإسلام، ولكن لما ابتعد العالم عن جوهر الدين وتركوا العمل به، عندها فقدوا عنصر براءة الطفولة داخلهم أو لربما تنكّروا له. ولكن هل يمكن في هذا العصر التدبّر ببراءة الطفولة مع العالم الذي فيه من المكر، الخداع، الخبث والكذب الكثير؟

نعم إنه لمن الصعب التكيّف مع عالم مليء بالفساد الأخلاقي من دون إعادة النظر في القصد والنوايا فكل شيء وارد ومحتمل من بني البشر ولا أحد معصوم من الخطأ مهما يكن فادحا! ولكن هل هذا يعني انعدام الثقة تماما؟ بالطبع لا، لأنه عندها سيساورنا مرض الشك ولن نتقدّم في أي أمر بحياتنا. إن الطريق لمجابهة الواقع المُعاش تكمن في التبصّر بالواقع بمساعدة المنطق الإنساني، فمن جهة علينا أن نكون واعين لإمكانية وجود الشر متمثلا بالغش والخداع وغيرهما، ومن جهة أخرى علينا أن نعلم أنه مهما انتشر الشر واستفحل فإن الخير ما زال قائما وكثير من الناس طيّبون ولا يبغون الإسائة إلى الغير على الأقل.

لكن يبقى الحل الأنجع هو محاولة التغيير حتى نصل إلى الوضع الأمثل، وهو عندما يملك الجميع قلوبا مثل قلوب الأطفال وبالتالي براءة الطفولة وكذلك عقول رجال ناضجين، وبالنهاية هذا هو الذي يحثّ عليه الإسلام فذاك القلب هو المُضغة التي اذا صلُحت صلُح الجسد كله، ولا شكّ أن قلوب الأطفال هي أنقى القلوب وأطهرها ولكن ما إن ينخرط الإنسان في واقع الحياة المركّب حتى يبدأ ذاك البياض بالإضمحلال، ولذا كانت ضرورة إحيائه في النفوس. كما أن العقل المفكّر هو الذي يأخذ الإنسان إلى التفكير السوي والمنطقي وبالتالي إلى العمل الصواب. لكن علينا أن ننوّه إلى أن هذا المقال لا يُبطل قيما مثل الشجاعة والجرأة وغيرها، حيث أن القصد من وراء مصطلح "قلوب الأطفال" هو براءة الطفولة بالأساس وما تجذبه الكلمة من معاني قريبة. 




إنه لمن المؤسف جدّا ونحن في عصر العلم والمعرفة وعصر التكنولوجيا التي تعدّت الحدود وعصر الحلول الخلّاقة لكل مشكلة من أجل ضمان راحة الإنسان، أن نرى ونسمع عن ظاهرة الفقر المتفشّية في العالم ولا سيما في أفريقيا. وأتسائل هل العالم الذي يجتاح الفضاء ويجعل جُل تفكيره في الرفاهيات، عاجز عن تلبية الحاجات الأساسية لكثير من الناس؟! أم هو نتيجة لفعل إنساني مقصود؟! وكيف ينام أغنياء العالم عندما يموت كل يوم 35 ألف طفل بسبب الجوع والمرض؟!!! إنها حقّا كارثة وهو وباء خطير وإن الأرقام لتبدو خيالية ولا يحتمل العقل تصديقها، ولكن وفقا للمعطيات: "تبلغ ثروة ثلاثة من أغنى أغنياء العالم ما يُعادل الناتج المحلي لأفقر 48 دولة، كما أن ثروة 200 من أغنى أغنياء العالم تتجاوز نسبتها دخل 41% من سكان العالم مجتمعين، كذلك، فإن 3 مليارات أي ما يقارب نصف سكان الأرض يعيشون تحت خط الفقر وهو دولاران أميريكيان في اليوم، ومن بين هؤلاء هناك 1.2 مليار يحصلون على أقل من دولار واحد يوميا، بينما يموت 35 ألف طفل يوميا بسبب الجوع والمرض" (الجزيرة، المعرفة: تحليلات).

بغض النظر عما إذا كانت الأرقام أعلاه دقيقة أم لا، ولكنه حادث فظيع موت شخص واحد بسبب الجوع ونقص الحاجات الأساسية في حين العالم يخدعنا ويتكلّم عن الرفاهيات والأخلاق الرفيعة والمبادئ والقيم وعن القمر والمريخ، فكيف وإذ تحوّل الفقر إلى ظاهرة! واضح أنّ هناك انعدام للعدل في هذا الموضوع وأن من يتغنّى بالقيم والرُقي يتستّر من وراء الإنجازات العلمية ومن وراء الطبقة الغنية متجاهلا كل فقراء العالم. إن هذه الرأسمالية التي تمحق الإنسانية لا يمكن لها أن تستمر على هذا المنوال، ولذا على كل الدول وأولها الدول الغنية وعلى كل رؤوس الأموال وعلى كل من يستطيع المساعدة أن يقفوا لمساندة كل فقراء العالم متغاضين عن إنتمائاتهم الدينية، الحزبية، العرقية وغيرها لأنّ قيمة الإنسانية تتغلّب على كل شيء، هذا إن فهموا حقّا معنى الإنسانية.

وكما وصف الرئيس الجنوب أفريقي "مبيكي" معضلة الفقر في مؤتمر الأرض قائلا بأن: "العالم اليوم أصبح جزيرة أغنياء تحيط بها بحار من الفقراء"، فإننا نقول أن هذا الحال الصعب من شأنه أن يزلزل كل المؤامرات التي تُحاك من أجل السيطرة على شعوب العالم ومن أجل استعبادها. عندما لا يستطيع الإنسان تحصيل حاجاته الضرورية فإنه لن يستطيع الإنتقال إلى حاجات أرقى على السلم الإنساني، وعندها يتم سلب الكرامة التي منحها الله إياها وإلغاء التفضيل على سائر المخلوقات مما يجعله يقترب من سائر الحيوانات إن لم يكافح ولم يناضل من أجل إنسانيته بنفسه، وهذا يسهّل استعباد الشعوب بطبيعة الحال وإبقاء السيطرة في يد الدول الغنية. 



لقد يسّر الله لي مؤخّرا أن أشترك في دورة تحضيرية من أجل الحصول على موافقة لإجراء تجارب على فئران وجرذان، وفي حقيقة الأمر لقد كانت تجربة مُذهلة يشعر من خلالها الإنسان بقيمة إنسانيته الراقية. إنّ التربية الإسلامية التي انحدرت منها لطالما حثّتني على الرفق بالحيوان وعلى معاملته بالُحسنى، وتحضرني قصة تلك المومس التي سقت كلبا وقصة تلك التي عذّبت قطة ومصير الجنة للأولى والنار للثانية. لكنّ ما شدّ انتباهي هي تلك الرّقة في التعامل مع الحيوانات التي هي من فصيلة القوارض والتي تُعتبر عند الناس من الكائنات المُؤذية ذلك أنهم ينصبون الأشراك للقبض عليها، ولكنّ الفئران التي نتعامل معها هي فئران المختبر، فما إن بدأنا اللقاء الأول حتى راح الطبيب البيطري يُداعب الفأر ويُسهب في التشديد على راحته، مع أنه كائن صغير جدا وقد يتبادر إلى الذهن أنه لا يحس شيئا. بدأ الطبيب في سلسلة من العمليات أجراها أمامنا على فأر واحد لكي يسهل علينا تطبيقها لاحقا على فأر آخر بأنفسنا، وفي كل خطوة راح يعيد نفس الجملة حتى صارت لازمة: يجب أن تنتبهوا إلى راحة الحيوان، علينا إنجاز العمل مع أقل ألم ممكن!

يا الله، أقل ألم ممكن! إنها محاولة لإختلاق توازن بين المتناقضات، فمن جهة هناك حاجة لتطوير العلم وإضافة أبحاث جديدة إلى سجل الموجود، ومن جهة ثانية هناك أوامر صارمة تصدر من لجان مراقبة تُدعى لجان الأخلاق (ועדות אתיקה) لإتمام التجارب في أنجع صورة. أخذ ذاك الطبيب يُعطي إرشادات تُظهر الرقة الإنسانية تجاه هذه الكائنات المحكومة، مثل: لا تُباشروا العمل قبل التأكّد من أنّ الكائن مخدّر تماما (هناك خطوات بسيطة يمكن تنفيذها بدون مخدّر)، لا تُمسكوا الفأر من طرف ذنبه لأنّ هذا يوجعه، حافظوا على مصدر دفء قريب من الحيوان وقت التخدير، انتبهوا إلى نبضات القلب، انتبهوا إلى أن التخدير ما زال عميقا وفقا للحاجة، في نهاية التجربة يجب التأكّد من أن الحيوان فارق الحياة ولذا يجب فصل القلب عند الجرذان، وفصل الرقبة عن الجسد عند الفئران بسرعة وبإتجاه معين لئلا يطول زمن الألم، والمزيد من التعليمات التي لا ينبغي مخالفة إحداها.

إنّ هذا يُوصلنا إلى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي سطّره قبل أكثر من أربعة عشر قرنا عندما قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته". هي رحمة الإسلام تنتقل اليوم إلى غيرنا ولربما نفقدها نحن، ولذا نقول أنه من الواجب أن لا نحصر إنسانيتنا في التعامل مع بني البشر وإنما يجب أن تتعدّاها لتلامس تلك الحيوانات الرقيقة، وبذلك يجب أن نلقي إنسانيتنا على كل كائن حي. 



بسم الله الرحمان الرحيم

يقول ربّنا جلّ وعلا في كتابه العزيز: "إنّ الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تُنذرهم لا يُؤمنون"(البقرة،6)، أي "إن الذين جحدوا ما أُنزل إليك من ربك استكبارا وطغيانا، لن يقع منهم الإيمان، سواءً أخوّفتهم وحذّرتهم من عذاب الله، أم تركت ذلك، لإصرارهم على باطلهم". في هذه الآية يلفت إنتباهنا صعوبة التغيير والتشبث بالمعروف لنا، ولهذه الصعوبة عدة تفسيرات منها: الخوف من الجديد فلربما يكون أسوأ من الموجود حاليا، أو تسخير المبرّرات الكثيرة من أجل البقاء في الوضع الحالي وذلك من أجل المحافظة على التوازن النفسي، أو لأنّ الأمر المعروف والمُعتاد لا يحتاج إلى جهد جديد ولا يُثير الخوف. هذا الحديث يرتبط بالتربية المبكّرة والتي فيها تتكوّن النماذج (schemes)، والنموج هو مبنى ذهني يشمل تجسيد لظواهر وأحداث، فالولد الصغير يستجيب للتغيير بسهولة نسبيا للكبير، لذا عندما نتغذّى من فكر معيّن طوال فترة الصغر، فإنّه يكون عالمنا ونصير نفكّر أنه هو الوضع الطبيعي في الكون. هذا ما يؤدي إلى اختلاف وتعدّد وجهات النظر بين الناس، فكلٌ يؤمن بفكر معين ويجلب التفسيرات التي تدعم أقواله لكي يُقنع نفسه والآخرين، فترى الأديان المختلفة والتنوّع الكبير في كل دين، وغيرهم وكلهم في توازن نفسي نسبي.

الإصرار المنبوذ هو الإصرار الذي يُضيّق الفكر فلا يسمح للإنسان في أن يفكّر في البديل وفي أن يعمل لنفسه مراجعة ذاتية كذلك، أما الإصرار المحمود هو عندما تُؤمن بالفكرة على بصيرة، أي تكون قد عقلت أبعادها ومنطقها ودرست بدائلها أيضا، عندئذ يكون الإصرار مطلوبا لأنه يُساعد على الإستمرار في نفس الطريق، وبالتالي يوجّه فكر الإنسان إلى هدف معيّن مما يسنح له الفرصة بتطوير فكره. لذلك، فإصرار الكفّار الموصوفين في الآية هو إصرار مذموم، وهو لا يحتكم إلى المنطق السليم.

نقطة أخيرة بالنسبة للتغيير، هي أن المجتمع يُطلق أحكاما صارمة على من يمرّ بتغيير جوهري وكثيرا ما ينتقدون الإنقلاب الفجائي ولربما ينبذون من قرّر أن يتغيّر، لا بل ويستغرب الناس التغيير ويصفون شخصية الإنسان بالمتقلّبة والمتخبّطة، وهذه هي أحد أهم العوامل التي تصعّب عملية التغيير، إذ أن المجتمع يرى من يمرّ بتغيير جوهري كأنه معجزة وهذا كما يبدو بسبب النظر بعين الكمال إلى الإنسان.

والله أعلم ...