علم نفس

مدونة تعنى بعلم النفس, يحررها محمود زيد

يتسائل كثير من المسلمين وغيرهم ,  لماذا يتجرّد المعتمرون والحجاج من ملابسهم فيرتدون أبسط الثياب ؟! وما هي الحكمة والغرض من هذا الطقس الديني وما هي آثاره على النفس الإنسانية ؟! وما هي إسقاطاته على العلاقات الإجتماعية ؟! والحقيقة أنّ الأمر يظل مبهما حتى يدخل في واقع حياة الإنسان وعندها يعرف الشخص ضرورة هذا اللباس وفائدته الملموسة .
لنأخذ تجربة السجن المصطنع المشهورة لعالم النفس فيليب زيمباردو لكي نفهم الفكرة : وفقا للتجربة التي جرت في جامعة ستانفورد سنة 1971 , قام زيمباردو بتقسيم جمهور المشتركين إلى سجّانين أو مسجونين بصورة عشوائية , وشدّد على تقليد الوضع الطبيعي بكل أبعاده إن كان في لباس السجّانين والمسجونين وإن كان في مبنى السجن وإن كان في الأدوات التي حصل عليها المشتركون , إلا أنّ المذهل في الأمر أنّ السجّانين قاموا بالتنكيل بالمسجونين رغم معرفتهم أن هذه مجرد تجربة , وكذلك فإنّ المسجونين أنفسهم أظهروا بوادر إكتئاب وضغط نفسي رغم درايتهم أنهم في سجن مصطنع . يجدر الإشارة إلى أنه تم إيقاف التجربة الفظيعة بكل معنى الكلمة بعد ستة أيام , ومثل هذه التجارب لا تحظى بموافقة لجنة الأخلاق ( ועדת אתיקה ) في هذه الأيام.
فما هو تفسير هذا التصرف الغير منطقي للناظر فيه ؟! وما الذي دفع بمن يعلم أنه في تجربة لأن يتصرف وكأنه في وظيفة رسمية ؟! الجواب يكمن في أنّ الإنسان الناظر يختلف إختلافا جوهريا عن الإنسان المُشترِك , فذاك الذي دخل في التجربة ولبس ثياب السجّان أو المسجون وشعر أنّه في سجن حقيقي , فإنه في حالة نفسية مختلفة عن المشاهد عن بعد . المصطلح العصري لهذه الحالة يسمّى بالإنخراط أو الإندماج في الوظيفة أو الدور ( כניסה לתפקיד ) وهو يعني أن تعيش الدور الملقى عليك بكل تفاصيله من ناحية شعورية وتنفيذية.
نأخذ أمثلة أخرى من الحياة اليومية ونقول إنّ العامل المشترك لهذه الأمثلة كلها هو الزي الموحّد الرسمي , ولكنّ هذا الزي على بساطته فإنّه يساهم مرارا وتكرارا في الإنخراط في الوظيفة . المثال الأول هو مثال اللواتي يصفهنّ الأدباء والشعراء بملائكة الرحمة لأنهن بيض الثياب , نعم نحن نتحدّث هنا عن فئة الممرضات والممرضين والأطباء والطبيبات الذين يتميزون عن غيرهم بلباس موحّد مميّز فلا يكاد يختلِف كبير أو صغير في تشخيصهم . هذا اللباس يرمز إلى الطبيب المساعد , المخلص لعمله , المخلّص لمريضه من سقمه والمعالج المؤهل لفهم داء المريض ومن ثم تقديم الدواء . المثال الثاني هو مثال الجيش العسكري , فلا يمكن أن ترى جنديا واحدا يخرج بلباسه عن المفهوم ضمنا , وأمثلة أخرى كثيرة في هذا الصدد مثل : المحامون , القضاة , طلاب المدارس , وغيرها من الألبسة المتفق عليها في إطار المجتمع الضيق أو الرحب كلباس الإحرام في إطار الأمة الإسلامية .
إذا ما عدنا إلى فلسفة الإحرام فإننا نجد عدة تفسيرات وإسقاطات نفسية لمثل هذا اللباس الموحّد المميز . أولا, لباس الإحرام يمتاز بلونه الأبيض ومن يظن أن ليس لهذا اللون تأثير ضمني على النفس الإنسانية فإنّ تفكيره في منئ عن الحقيقة , لأنّ الحقيقة أن اللون الأبيض عندما تراه محيط بجسدك وترى الآخرين حولك في لونهم الأبيض , فإنه يطلق إشعاعات قوية إلى نفسك وروحك بأن يا نفس كوني بيضاء كلباسي , وأن يا قلب تحرر من سوادك وحقدك وضغينتك إلى بر الطهر والنقاء والصفاء , وأن يا إنسان هذه ورقة جديدة بيضاء تلفّ جسدك فأحسن فهمها وتقديرها ولا تملئها بالخطايا المنتنة الموسخة ! يمكن أن نقول أنّ هذا الرابط العجيب هو رابط الروح والنفس بالجسد ورابط العالم المادي بالعالم الروحاني , ولهذا نحن نتكلم هنا وفقا للفرضية أنّ بين الروح والجسد هناك تأثير ثنائي متبادل , وبنظري فإنّ هذه الفرضية بدأت ترجع إلى العلم بعد غيابها في القرن الماضي وخصوصا في أوروبا بعد عصر النهضة . نعطي مثالا لهذا الرابط في كلامنا اليومي وبالتحديد الدعاء المشهور : اللهم نقّني من خطاياي كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس ! هذا مثال صارخ للتشبيه والمقاربة بين العالم المادي وعالم النفس الروحاني . 
ثانيا, لباس الإحرام هو لباس بسيط يسوّي بين الفقير والغني والملك والخادم والأمير والعبد , ولهذا فإنّه يحطّم جميع الفروقات الإجتماعية الطبقية ويعرض الناس كلهم في شكل واحد , وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على عدل الإسلام وأهمية قيمة المساواة بين أفراده . أنت عندما تشاهد أخاك في هذا اللباس لا تعرف عنه معلومات كثيرة إضافية سوى أنه مسلم وقادم إلى مكة لأداء عمرة أو حج , وعندما تتكلّم مع أخيك تتكلّم معه على أساس فرضية واحدة : أنه مسلم , ولذا فإنك لا تميز من أعلى منك قدرا ومن أقل منك , ومن هنا فإننا نصل إلى النقطة الثالثة , وهي أنّ لباس الإحرام من شأنه أن يقوّي الأواصر الإجتماعية بين المسلمين وبناء الصف المرجو كالبنيان المرصوص وتوحيد الأمة المتفرّقة . هذا الشعور بالمساواة والإنتماء إلى نفس المنبع لا يمنعك من أن تباشر أيا كان يقف أمامك بالحديث , أو أن يتعامل الفقير البائس مع أكبر تجار العالم لأنّ حقيقة كلاهما في هذا الموقف متساوية .
رابعا, لباس الإحرام يُشعر الوافدين إلى الرحمان بفقرهم وحاجتهم وضعفهم أمام الخالق جل وعلا . من طبيعة النفس الإنسانية أنها تحب السكينة والخلود والبقاء والسيطرة , ولكنّ المشكلة أنّ هذه الأوهام بعيدة عن الواقع , وإذا ما أردنا أن نوظّف علم النفس لمصلحتنا فإنّ علم النفس لا يريد ولا يسعى إلى أن يعيش الإنسان في هدوء وخيال مريح , وإنما على العكس من ذلك فإنّه يريد مساعدة الإنسان على مواجهة الواقع وإن كان مرا وتخطي الصعاب ومع هذه المواجهة أن نعيش بتوازن نفسي . غريب حال الناس عندما يتنكّرون لمصيرهم وحالهم المستقبلي ويفضّلون حياة الخيال واللا واقعية . أنت يا إنسان ضعيف أمام الرب وأمام عظمة الكون وهذا ليس سرا وهذا ليس تفكيرا سلبيا لأنّ هذه هي الحقيقة وهذا الضعف هو نسبي ولا يعني إنعدام الطاقات , إذا فالبطولة أن تعرف كيف تستغل قواك وكنوزك العظيمة مع العلم بضعفك أمام الخالق ! أنت يا إنسان حتما ميت في يوم من الأيام لذلك ليس من التفكير الإيجابي الهروب من هذه الحقيقة ونسيانها لأننا عند ذلك نسخّر علم النفس لنسيان واقع الحياة وليس لمواجهة الواقع والتكيف معه والتأقلم مع مره وحلوه . العلم الحديث يتحدّث عن نظرية بإسم terror management theory والتي تقول أنّ التصرف الإنساني مبني على الخوف من الموت . لذا فإنّ لباس الإحرام هنا يلعب دورا مهما بأنه يذكّرنا بحقيقة الحياة ويزيل الضباب عن واقعها , فتراه يقول لنا أنت يا إنسان عبد لله , فقير إليه , تحتاج لرحمته وكرمه وعفوه ورضاه , وربما يقول أحدهم أنّ هذا تمسكن وتذلل وإبطال للثقة بالنفس وإلغاء للشخصية القوية فله نقول : هذه هي الحقيقة والحقيقة المرة خير من الوهم المريح , للإنسان قدرات عجيبة ولكنها محدودة أيضا بحكم كونه عبد لله , فهل لك يا إنسان أن تمنع موتك ؟! هل لك أن تمنع جلطة دماغية أو قلبية ؟! هل لك أن تمنع زلزالا أو تسونامي أو إعصارا أو بركانا ؟! هل لك أن تعرف متى هو يوم موتك وماذا ستكسب غدا ؟! تيار كبير في علم النفس الحديث يدعي أنّ التمركز بإلغاء الألم في الحياة يضاعفه أضعافا كثيرة ويجعله عناء , ولذا يجب أن نفهم أن الألم جزء من الحياة والغرض من العلاج هو لكي نواجه مشاكلنا وآلامنا بحكمة فنحقق أهدافنا المرجوة في هذه الدنيا .
خامسا, لباس الإحرام يعكس نظاما وأيديولوجية إسلامية وحضارة وثقافة دامت قرونا , وهو يعكس قوة نفسية في الظهور أمام كل الناس بلباس مميز مخالف للباس العادي المهندم , ولكن يمكن أن نقول أن الـ conformity  أي الخضوع لتأثير مجموعة المحرمين شديدة ولذا يشعر الفرد بـ de individualization  وهو أن يشعر الفرد بفقدان هويته الشخصية والإمتزاج مع المجموعة . علاوة على ذلك , فإنّ بين كل فئة من الناس تجد رموزا إجتماعية أو دينية أو تربوية متفق عليها إلا أنها غير جلية للناظر من بعيد أو غير ملفتة لنظره , ولذا حتى نفهم ثقافة فئة معينة علينا أن ندخل إلى أعماقها ونعايشها وندرسها لأنّ هذه الرموز تكون عادة مفهومة ضمنا لأبناء الفئة نفسها ولذا فهم لا يتكلمون عنها كثيرا .
سادسا, لباس الإحرام يربطنا بالماضي التليد والمستقبل العتيد . هذا هو هدي رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ونحن عندما نقتفي أثره فإننا لا نتبع ما ألفينا عليه آبائنا وإنما نتبع ما تواتر إلينا من تصرف حبيبنا ورسولنا ونبينا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم . إذا كان محمد عليه الصلاة والسلام هو قدوتنا فإننا سنطيعه وسنأتمر بأمره وسننتهي عن نهيه ونأخذ عنه ديننا وهو في هذه الحالة المثل الأعلى لنا ولذا فإننا دائما نطمح لأن نرقى إلى مستواه . من ناحية نفسية فإنّ هذا الإرتباط ينتج طاقة نفسية لأني ابن أعظم البشر , وكذلك فإنه يحفّز للعمل من أجل الإقتراب من المثل الأعلى . لذلك فإنّ لباس الإحرام يذكّرنا بماضينا وبحضارتنا وبنبع ديننا وهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم , وكذلك فإنّه يزرع الأمل في النفوس ويكشف قوة هذا الدين عندما ترى كل تلك الوفود المتجردة من الدنيا طلبا لرضى الرحمان , ولذا فإنه يرسم مستقبلا مرتقبا لعودة عز الإسلام والمسلمين عما قريب .
سابعا, كما أسلفنا فإنّ للإنخراط في العمل أهمية كبيرة في نجاعته وبمساعدة هذا اللباس الرامز إلى العبادة الفريدة من نوعها يبدأ الإنسان بالتحضّر والتهيأ للعمرة أو الحج وذلك مع أول خطوة وهي الإحرام , ولذا فهي تشكّل عاملا ضروريا للدخول في الأجواء وبالتالي الإنخراط في العبادة العملية بكل أبعادها . بكلمات نفسية , هذا اللباس ينتج لنا priming أي رمز وتحضير لزيادة التكيف والإنسجام مع القادم الجديد .
ثامنا, لباس الإحرام يقول لنا أنه ليست هذه الدنيا هي النعيم المنتظر وليس اللباس الأنيق هو الأهم ولكنّ الأهم هو جوهر الإنسان وقلبه وجوفه وداخله وعقله ويقينه وإيمانه , فهذه هي العوامل التي تأخذه إلى نعيم عالم الخلود وليس اللباس الأنيق ولا السيارة الفخمة ولا القصر الملكي ولا ملايين الدولارات , هذا اللباس الذي يشبه كفن الموت يقول لكل من غرّته الدنيا أنه سيرقد غدا في القبر ولن ينفعه ماله ولا ولده إلا عمله الصالح . من ناحية نفسية الإنسان يحتاج إلى رابط يدوم معه في كل وقت وحين وفي كل مكان وإذا فكّرنا في أي شيء في عالم الماديات فإنّه يعجز عن تلبية هذه الحاجة , ونصل إلى أنّ الرابط الوحيد الذي يدوم هو صلة العبد بخالقه , هذا الرابط يدوم إذا افتقدنا الأهل والأصحاب وإذا افتقدنا المال وإذا افتقدنا نفس الحياة , ولذا كان علينا حتما أن ننميه ونستهلك أنفسنا في تقويته , ولكنّ العجب مما أحدث الناس أنّ أغلبهم نسيه أو يتناساه إما لجهل وإما لفهم خاطئ وإما لتسويف وإما لأسباب أخرى تافهة . المشكلة أنّ النفس الإنسانية تركن إلى اللذة الآنية ولذا كان واجبا أن نسخّر العقل لتنظيم شهوات النفس , وباللغة الفرويديانية علينا أن نسخّر الـ super ego في سبيل ضبط وليس كبت الشهوات الإنسانية , وهذا يعني أن نضعها فيما أحلّ الله ومنعها مما حرّم فليس الإسلام يمنع معاشرة النساء ولكنّه يحث عليها في مؤسسة الزواج وليس يمنع جمع المال ولكنّه يدعو إلى كسب الرزق الحلال وليس يمنع الحب , ولكنّ النقطة المهمة أنّ هذه الأمور لا يجب أن تكون غايتنا الأولى والأخيرة وجلّ إهتماماتنا وإنما هي مهمة ولكن هناك أهم وهو الجانب الروحاني , فكل البشر يأكلون ويشربون وينامون ويتزوجون أما إذا أراد الواحد أن يخلّد ذكره ويصنع تاريخا فعليه أن يبذل طاقة في غير هذه الحاجات الأساسية .
خلاصة القول أنّ لأبسط الأمور هناك تأثير ضمني على النفس الإنسانية ولكننا كثيرا ما نعيش الحالة الإجتماعية دون أن ندرك كيف دخلنا إلى هذه الحالة , وكيف استطعنا فعل المهمة رغم عظمها في نظرنا في مرحلة التوقّع , وكيف استطعنا الخروج من أثر الحالة بكل سهولة . ختاما, في هذه المقالة تمّ عرض بعض الآثار النفسية للباس الإحرام وما هي الحكمة النفسية من ورائه من وجهة نظر مجرّب . والله أعلم .

0 تعليقات:

Post a Comment