علم نفس

مدونة تعنى بعلم النفس, يحررها محمود زيد

بقلم : الطالب الجامعي محمود صابر زيد
هل سيطرت القطبية على فكرنا فلم نعد نبُصر حقيقة الوسطية ؟! أم هل نعتقد أنّ بروزنا وشموخ صوتنا لا يتحقق إلا بالإتجاه إلى الأقطاب ؟! وهل التيارات المتطرفة تستحوذ على قلوبنا وتشغل أذهاننا وتغزو وسطيتنا الضائعة ؟!
في هذه المقالة سوف أقوم بعرض نظرة في المجتمع العربي والإسلامي خاصة والتي تتعلق بتيارات التطرف والإعتدال أو ما يُعرف بالوسطية بالإضافة إلى إضفاء لمسة من لمسات علم النفس على هذا الواقع.
في بداية الحديث أودّ أن أوضّح أنّ مصطلح القطبية يوحي إلى التطرّف والإبتعاد عن خط الوسط. هذا الإبتعاد يمكن أن يكون من كلا الجانبين حيث أنّ القطبية هنا تعني إما المبالغة والتنطّع والإفراط وإما تعني الإستهتار والإستخفاف والتساهل. ولتقريب الصورة للقارئ أشبّه هذا الوصف بمنى الكرة الأرضية فكلنا يعلم أنّ الكرة الأرضية تحوي قطبين: شمالي وجنوبي وفي كلاهما برد قارس وضياء الشمس وإن وصل فإنّه يكون ضئيلا وحياة نصفها الظلام في حين أنّ وسط الكرة الأرضية عند خط الإستواء تسطع الشمس فيه بحرارة وقوّة والدفء مستشرس هناك. إنّ هذا التشبيه يعطي رمزا لمحور الحديث وهو مدح الوسطية ونبذ كل نوع من أنواع التطرف.
كلمة الوسطية أكثر من واضحة لنا ولكنّنا نتجاهلها أو لا نعرف كيف تكون في واقع الحياة أو أنّها لا تعنينا بتاتا مع أنّ الإسلام لطالما حثّ على الوسطية فقد قال تعالى في محكم تنزيله: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً " وقول رسولنا الأكرم عليه الصلاة والسلام: "خير الأعمال أوسطها". فلمّا كانت الوسطية من منهج الإسلام كان حقا على كل من نطق الشهادة أن يتوسّط في مسار حياته وإلا شدّته تيارات عاتية حتى يصل إلى الأقطاب.
إنّ الناظر في واقع عالمنا اليوم يرى ظاهرة غريبة وهي أنّك إذا أردت المُفرط فإنك تجد أمثلة لا حصر لها وأعداد متزايدة وإذا أردت نموذجا لمتساهل فإنّك تكاد تجد أعداد خيالية ولكنّك إذا أردت نموذجا لشخص وسط فإنك تحتاج إلى بحث يدوم أياما وليالي حتى تجد مرادك وربما يخيب أملك بعد إستقراء الشخص من النظرات الأولى والثانية والثالثة فتجده غارقا في قطبه . لا شكّ أنّ هؤلاء الأشخاص الوسطيين موجودون ولكنّ الإدعاء أنّهم ثلة قليلة من بين ألوف مألّفة . والأغرب من الظاهرة السابقة ظاهرة أخرى تصف إنتقال الشخص من القطب إلى القطب بقفزة نوعية دون عبور الجبال والمحيطات التي في الطريق أو حتى دون إلتفات وإهتمام للصورة الكاملة .
عندما أتكلّم عن الوسطية أعني في ذلك أن تُعطي وتأخذ وأن تحافظ على مبادئك وثوابتك وبنفس الوقت تتأقلم في البيئة المحيطة المتغيرة وتكون عنصرا فعّالا فيها فالكون يحافظ على ثوابته الكونية ومع ذلك نشهد تغييرات في حاله ليتلائم مع الوضع الحالي وبما أنّك يا إنسان جزء من هذا الكون الضخم فمن الطبيعي أن تتصرف كتصرف من هو أكبر منك وأعظم . والوسطية تقع ما بين الترغيب والترهيب والشدّ واللين والتبذير والشُّح وهي تتمركز في نقطة المنتصف على محور له إتجاه موجب وآخر سالب فإن زاد الشيء أو نقص فإننا نبتعد عن الحل الأمثل والطريق الصواب . بالإضافة إلى ذلك , فإنّ الوسطية تضع الإنسان في حالة توازن نفسي في عالم متعدد الأطر والمجالات والمحفّزات وتجعل منه عنصرا مرغوبا في المجتمع وتشركه في كثير من الإتجاهات .
ولكن ما يثير الفضول هو لماذا يتجه إذاً كثير من الناس إلى الأقطاب ويتركون الوسطية في ذاكرة النسيان ؟! للإجابة على هذا السؤال علينا أن ننتبه إلى أنّ واقع الحياة اليوم هو مركب جدا وهناك العديد من تيارات المدّ والجزر والشدّ واللين وهذا يضع الإنسان في دوّامة الحيرة وصعوبة الإختيار . لذلك تجد الكثير يسارعون بإنقاذ أنفسهم من تلك الدوامات بأسرع الطرق وأيسرها وإن لم تكن هي غاية وجود الإنسان خوفا على أنفسهم من الغرق والواقع أنّ جميعنا يسعى للخروج من تلك الدوامات ومن اللاسكينة إلى بر آمنٍ أكثر لنستطيع أن نتحرّر من التركّز بحالنا ونطلق فكرنا وفعلنا خارج كياننا الذاتي . لكنّ ما لم يفهمه كثير من الناس هو أنّ الخروج من هذه الدوامات يجب أن يُفضي إلى طريق الوسطية وليس إلى القطبية المستشرسة في عالمنا فالركون إلى أحد جوانب الحياة وإهمال الجوانب الأخرى هو يسير نسبيا ولكنّ البطولة هو أن تجمع بين الجوانب كلّها فتنجح في شقّ الطريق الوسط من خلالها ولتبسيط الأمور نشبّه الصورة بمن استفرد بدنياه دون أُخراه فكان من المتساهلين وحياته ساذجة لأنّه لم يرد أن يُدخل الآخرة في حياته فعاش في جانب واحد وترك الآخر وأما من استفرد بأُخراه دون دنياه فإنّه يعكس صورة ذاك الراهب القامع في صومته والذي لا يعرف إلا الجانب الروحي ولم يتذكر أنّ لبدنه عليه حق ونسي نصيبه من الدنيا فكانت حياته بسيطة وربّما لم يصل صداها إلى المجتمع الإنساني . لكنّ بطلنا هو من جمع بين الدنيا والآخرة فعاش بين مجتمعه الإنساني وحافظ على مبادئه وثوابته فهو قد اختار الطريق الأمثل وإن كان طويلا أو صعبا ولكنّه علم أنّه غاية الوجود الإنساني .
وإذا ما أردنا أن نوسّع الفكرة فربّما يكون الإتجاه إلى الأقطاب هو من أجل البروز والظهور السريع على مستوى المجتمع والعالم بأسره فالكثير يرون أنّ أحد مقوّمات الشهرة هو الإتجاه إلى القطبية لأنّ هذه الطريق تُحدث ضجّة إعلامية وتستهوي قلوب كثير من الناس لأنّهم سئموا ربّما العيش الطبيعي والتقليدي وأرادوا ما يحوي بداخله عنصر المفاجئة والإثارة .
أضف إلى ذلك فإنّ التربية المبكّرة والثقافة التي يحاول المجتمع اليوم زرعها في عقول الأبناء هي بمثابة ثقافة إما وإما أي إما أن تكون "أ" وإما أن تكون "ب" . إنّ هذا الفصل المصطنع لا يولّد إلا تفكيرا مفرّقا ويساهم في تشويه صورة الواقع الملوّنة ويُعيدنا إلى سنوات الأبيض والأسود والتي لم تعرف معنى الدمج ولكن فقط الفصل والمناقضة . ثمّ إن من طبيعة التفكير الإنساني أنّه إذا استبق في فكره شيئا معينا قبل مواجهة الواقع أو إذا آمن بشيء فإنّ ذلك سوف يؤثّر على التفكير الموضوعي والرؤية الموضوعية لواقع الحياة وهذا يعكس بدوره محدودية الفكر الإنساني وصعوبة تحرّره من الإيحاءات الأوّلية لذلك فإنّ من يعتقد بوجود واقع أسود وأبيض فإنّه سيراه في الواقع وإن كانت أعينه ترى باقي الألوان ولكنّ للوعي الإنساني محدودية . هذا النوع من التفكير نلمسه بشكل واضح عند الفصل بين الدين والحياة اليومية مع أنّ هذا النوع من التفكير هو من إبتداع المجتمع لأنّ الدين الإسلامي في جوهره شامل ويمس جميع أطراف الحياة فترى الناس يستبعدون أعمالا مباحة كثيرة عن الشخصية المتديّنة فيقولون لك هل يعقل أنّ هذا "الشيخ" يلعب الكرة أو يُضيع وقته في رسم لوحات أو تطوير موهبة موسيقية ؟! أو ترى من يعتبر نفسه شخصية غير متديّنة يقول لك هذا الدين لأُناس معينين وليس لأمثالي فأنا لا تُقبل منّي أي صلاة أو قُربة ؟! صحيح أنّ الإيمان والكفر لا يجتمعان في قلب واحد ولكن طالما نحن في دائرة المباح فإدعاؤنا ينادي بعدم الحصر والقصر وليس النفاق أو المراءاة لا سمح الله .
نقطة إضافية قريبة من سابقتها تتمحور حول إلصاق صفات وأوصاف لأشخاص من فئة معينة والتي تكون في غالبية الأحيان عامة أكثر من صدقها لأنّ منطلقنا هو أنّ التعميم من العمى ولكن ما يزيد السوء سوءا هو عندما تكون هذه الأوصاف من نسج الخيال ولها أهداف خفية كتحطيم فئة معينة أو إلغائها من الوجود . مثال حي على هذا هو أنّه هناك فكرة سائدة في المجتمع تدّعي أنّ من يذهب إلى المساجد لأداء الصلوات هم كبار السنّ وضِعاف العامة وشاب "معقّد" و"أصحاب اللّحى" وغير ذلك من فكر مدسوس لإضعاف الوسطية وتعظيم قطبية التديّن ومثال آخر هو ترسيخ فكر غربي في عقول شباب وشابات هذه الأمة فترى الشاب قد وصل إلى قناعة أنّ الشاب المثالي هو من يبتعد قدر الإمكان عن التديّن ومن أخذ يعاكس الفتيات وأمسك بسيجارته وجلس في المقاهي ليشاهد مباراة كرة قدم وسمّ الأرجيلة يرقد في أحشائه والشابة تراها تلاحق الموضة بلباسها وهمّها الأوّل كسب إعجاب شاب وسيم لكي تضمن مستقبلها الزاهر فهذه هي الشابة المثالية . والحقيقة أنّه على كل عاقل وعاقلة أن ينتعل حذاءا باخسا فيدوس بكلا رجليه على هذه الأفكار ويبصُق عليها من ماء الفم ويرمي بها بأقرب مزبلة في التاريخ .
أمّا فيما يتعلق في ظاهرة العبور من القطبية إلى القطبية كإنتقال شخص من التطرّف الديني إلى الإنحلال الخُلُقي أو العكس فوجود هذه الظاهرة مربوط بمحاولة الإنسان ربّما التخلص من عالمه السابق والذكريات المؤلمة إلى عالم ضدي لا يمُتُّ بصلة إلى العالم السابق وهذا الإنتقال المُفاجئ في ظاهره عادة ما يكون مرتبطا بحدث يشكّل نقطة تحوّل في حياة الإنسان . وربّما يكون هذا الإنتقال من القطب إلى القطب لشعور يصيب الإنسان بأنّه لطالما قصّر في جانب معين وعندما تجلّت أمام الإنسان صورة مختلفة للعالم وأيقن أنّ حياته السابقة كانت مجرد تُرّهات لم تقدّم أو تؤخّر عمل بالنقيض لإشباع النقص السابق وعندها وفقط عندها كما يعتقد البعض تحدث الموازنة .
خلاصة القول , إذا نظرت في الكون ترى البحار بمدّها وجزرها وترى الشمس بشروقها وغروبها وترى كمّا هائلا من الألوان في الطبيعة يصعُب عدّها فإنّ كلّ ذلك يدلّ على وسطية الإسلام ويُخرجنا من دائرة الأوهام والأحلام ومن كلّ فكر قطبي ضيّق لا ينبغي له أن يكون إلى دفء الوسطية وسماحتها وسكينتها .

0 تعليقات:

Post a Comment