علم نفس

مدونة تعنى بعلم النفس, يحررها محمود زيد

بسم الله الرحمان الرحيم
كنت قد عرضت في الأيام الماضية أمام ناظريكم ملف بعنوان : "هكذا فهم الغربيون معنى السعادة الحقيقية" وقد أكدت حينها وما زلت أؤكد أنّ هذا ليس ترويجا وافتخارا بفلسفة الغرب الإباحية وإنما انتقيت لكم من بين كل علومهم الدنيوية ما ينفع أمتنا العربية والإسلامية وبالتحديد من علم النفس . وقبل أن أبثّ لفضاءكم هذه المعلومات كنت قد تعمّدت إبهاركم بها ليكون الآن مدى إنبهاركم أكبر وأعظم وأشمل لأنّ كل ما قد قيل اليوم هو جزء من تاريخ مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرنا بمعنى أنه ليس من جديد الكلام ولا يعد اكتشافا حصريا ولذا كان من الحري بنا أن نعيد النسب لمن سطّر وسجّل السبق العلمي . لا شكّ أنكم عندما تقرئون هذه الكلمات قد فهمتم القصد ولكن إحتراما وتبجيلا منا لحضارة الإسلام لا بدّ وأن نذكر اسم معلّم البشرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه والصالحين ممن تبعوهم فهم من جاؤوا برأس الفكر وأغلى القيم وأسمى العلوم والحضارة البشرية والأندلس في حين كان الغرب يتخبّط في ظلمات التخلّف والجهل .
إن السعادة يا أيها الإنسان وُضعت بين يديك منذ أكثر من أربعة عشر قرنا ولكن السؤال الذي يُطرح هل وجدتها ؟! هل بحثت عنها يوما ؟! هل حاولت التنصّل شيئا من الزمان من ثقافة الغرب السائدة في أيامنا لتسبر أغوار السعادة من بين يديك ومن تاريخك الذي لطالما تغنّيت به ؟! إن كنت لم تفعل فإني لا أذمك ولكني أذم كسلك وسهوتك وغفلتك , وإن كنت فعلت فإني أمدح كلامي هذا بجدّك وعملك الدؤوب .
إذاً هل تكلّم الإسلام حقاً عن السعادة ؟! هذا هو السؤال ولكن من ثقافتنا نعلم أنّ من ادعى فعليه البينة وها أنا ذا أضع بين أيديكم أدلة تتكلم بنفسها فقد قال الله تعالى في محكم تنزيله :
( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) – جزء من آية رقم 97 من سورة النحل .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : "بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة , وقال ابن عباس : انها هي السعادة" .
وقال تعالى : ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ) ..( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) – جزء من الآيتين 123 و 124 من سورة طه .
وقال ابن كثير في تفسير هاتين الآيتين : "( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ) قال ابن عباس : لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة , ومعنى معيشة ضنكاً أي ضنكاً في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن تنعّم ظاهره .  وجاءت أيضا بمعنى : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه" .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سعادة ابن آدم : المرأة الصالحة والمسكن الصالح والمركب الصالح".
ما نلاحظه أنّ الإسلام فهم معنى السعادة بشمولية أكثر وبعقل أكثر تفتّحا ولم يحصر ولم يقصر السعادة على هذه الدنيا الزائلة والزائل نعيمها ولكنّه نظر إلى ما بعد الموت وشملها تحت هذا المصطلح الواسع . كثيرون سيقولون أنّ الغرب لم يشمل هذا المعنى الإضافي تحت سقف مصطلح السعادة لأنه ليس بالإمكان إثبات وفحص تلك المناطق البعيدة عنا أي ما بعد الموت ولكن أقول إنّ العجز البشري لا ينبغي أن يجبرنا أن نلغيَ جزءا من الحقيقة لبيان كمال الفهم الإنساني فإن الحقيقة المرة خير من الوهم المريح وقدرات الإنسان محدودة لا محالة.
وكيف ظهرت العوامل المرتبطة بالسعادة في النصوص الدينية قبل أكثر من أربعة عشر قرنا ؟
كنا قد قلنا أنّ أول عامل هو شخصية الإنسان حيث أنّ الأشخاص السعداء هم منفتحون أكثر وأقل عصبية . هؤلاء أشخاص مع ثقة عالية بالنفس وهم متفائلون أكثر .
كثيرة هي الآيات والأحاديث التي تتحدث عن هذا ولكن ننتقي جزءا منها دون تفصيل مسهب :
أولا : قال الله تعالى : ) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ) – آية 77 من سورة القصص . آية شاملة تحوي على تفائل وأمل في أولها ( الدار الآخرة ) , عيش الحاضر بسعادة بعد ذلك ( الدنيا ) , الإحسان إلى الخلق وهذا هو الإنفتاح بعينه , وأخيرا لا تفسد في الأرض ومع الخلق وهذا هو نبذ العصبية بعينها .
ثانيا : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ) أو كما قال . يقول د. يوسف القرضاوي في تفسير معنى القوي كما ورد في الحديث : "المؤمن القوي ... القوي في شخصيته، القوي في إرادته، القوي في تفكيره، القوي في بدنه، كل أنواع القُوة مطلوبة من المسلم؛ لأن الإسلام هو دين القُوة، دين الجهاد، دين العزَّة والكرامة، فهو يُريد لأبنائه أن يكونوا أقوياء ..." .
العامل الثاني من العوامل المرتبطة بالسعادة كما نقلت سابقا هو العلاقات الإجتماعية حيث أنّ العلاقات الإجتماعية القوية والجيدة مرتبطة بشكل قوي مع السعادة . الدين الإسلامي هو دين الإجتماعيات فهو يحثّ عليها ويريدها لبناء مجتمع متكاتف ومترابط . نجد هذا الحضّ في النصوص الآتية :
أولا : قول الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:10). وقوله تعالى : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) (المائدة:2). وقوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ) (آل عمران:103).
ثانيا : روى البخاري و مسلم عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه، من كان فى حاجة أخيه كان الله فى حاجته، و من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، و من ستر مسلم ستره الله يوم القيامة " .
وغيرها الكثير من الأحاديث والآيات التي تحث على الإحسان إلى الناس وتعميق العلاقات الإجتماعية ومساعدة الفقير والعطف على المسكين وكفالة اليتيم وبر الوالدين وصلة الأرحام والأقارب وزيارة المريض والسلام على المارين واتباع الجنائز والإيثار والكرم وحسن الضيافة والإستقبال وغيرها من الآداب والأعمال الكثير ولكنّي حاولت أن أعرض أمامكم صورة عامة لهذه المعاملات .
بالنسبة لما عرضته بما يتعلق بحقيقة أنّ الدعم الإجتماعي مرتبط بطول العمر فقد حثّ الإسلام على تقديم الدعم الإجتماعي وزيارة المرضى . يقول عليه الصلاة والسلام: "حق المسلم على المسلم ست" قيل: وما هن يا رسول اللّه ؟ قال: " إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتّبعه".
وقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضتُ فلم تعدني ! قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟! قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ".
الإسلام عندما يحضّ على زيارة المريض فإنّ ذلك ليس عبثاً أو صدفة وإنّما لأهمية الزيارة وما تتركه من أثر إيجابي على المريض وتجعله يشعر أنه ليس وحيداً وإنما من حوله أناس يحبّونه ويرجون شفائه فهو بمثابة دعم نفسي للمريض ومن الطبيعي أن يزيد من احتمالات الشفاء وبالتالي يساهم في إطالة عمر الإنسان .
العامل الثالث المرتبط بالسعادة كما نقلت سابقا هو تحقيق الذات والدليل على ذلك :
أولا : قال تعالى: ( مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ) (الأحزاب:23) . قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : ( وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ) " أي وما غيروا عهدهم وبدلوا الوفاء بالغدر بل استمروا على ما عاهدوا الله عليه " .
ثانيا : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ) . وقوله عليه الصلاة والسلام : "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه " .
في كل هذا إشارة إلى أنه من وضع هدفا أمام عينيه فلا بدّ أنّ يحافظ على حلمه في تحقيقه فلا يتنازل بسهولة عن مراده ولكن يبقى مثابرا حتى آخر خطوة .
العامل الرابع المرتبط بالسعادة كما نقلت سابقا هو قيمة في الحياة . لا شك أنّ الإلتزام بما أمر الله به والإجتناب عما نهى عنه هو منهج السعادة فالكل يتّفق أنّ الدين هو منبع الآداب والأعمال الصالحة التي تبقى خالدة بعبور الإنسان من هذه الدنيا كما أنّ الإنسان المؤمن يشعر أنّه بعبادته هو يشكر الله ويحمده على جميل فضله وامتنانه بأن منحه حقّ الحياة ونعماً أخرى كثيرة لا تعدّ ولا تحصى . بالإضافة إلى ذلك فإن مساعدة الآخرين هو أحد أهم الأشياء التي مدحها الشرع الحنيف ولا حاجة للتفصيل كثيرا في هذا المجال . قال تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ، وبذى القربى واليتامى والمساكين، والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم , إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) .
وهذا والله تعالى أعلم وأحكم ...

0 تعليقات:

Post a Comment