علم نفس

مدونة تعنى بعلم النفس, يحررها محمود زيد

منذ أن يُنهي الطالب العربي تعليمه الثانوي يخرج إلى محيط يرفض أن يستوعبه ويحتويه , فتراه يبحث عن عمل ليجمّع نقودا قليلة علّه يفلح في تمويل تعليمه الجامعي في السنة الأولى وربما الثانية إن أمكن ولكنّ إيجاد عمل معقول ليس بالأمر الهين , ولكنّ الطريق ما زالت طويلة فيبدأ هذا الطالب بالتفكير في تعلّم الطب , وإذ به يصطدم بتحديد لعمر القبول في أغلب الجامعات فيسجّل للجامعتين الخارجات عن هذا التحديد وهما الجامعة العبرية في القدس والتخنيون , وإذ بعقبة أخرى أمامه وهي القاصمة في أغلب الأحوال وهي سلسلة مقابلات تستمر لساعات طويلة في يوم واحد , هذا طبعا كله بعد ضمان علامات تلامس سقف السماء في شهادة البجروت وإمتحان البسيخومتري . بعد هذا العناء هناك أربع حالات متوقعة : الأولى أن يُقبل الطالب وهو إحتمال شبه مستحيل , الثانية أن يُرفض فيتقدّم مرة أخرى في السنة القادمة , الثالثة أن يُرفض فيغيّر موضوع التعليم , والرابعة وهي الأكثر إنتشارا وهي أن يخرج ليحقق حلمه الطبي خارج دولة إسرائيل . فما هو غرض هذه الدوامة ؟! وهل هي تنمُ عن حكمة معينة ؟!
إذا أردنا أن نتحدّث عن تحديد جيل القبول للجامعات , فلماذا هذا التحديد ؟! وهل هو وفقا للمعايير النفسية المعروفة ؟! دولة إسرائيل تتغنى بأنها في تحديدها الأعمار فإنها تحاكي الدول المتحضّرة , ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هل التقليد الأعمى هو الصواب أم هل هي حجة أقبح من ذنب ؟! علاوة على ذلك , فإنهم يدعون أنّ الشاب حتى جيل معين لا يكون ناضج بشكل كاف ولا يكون منخرط في الحياة العملية . في هذه النقطة بالذات يمكن أن يكون إدعاؤهم فيه شيء من الصحة ولكن ما هو السبب في ذلك ؟ الجواب هي تربيتهم الرقيقة , وسيأتي التفصيل إن شاء الله . لكن هل علم النفس الحديث يتّفق مع تحديد جيل القبول بسبب عدم النضوج النفسي ؟!
وفقا لعالم النفس بياجيه وبحسب نظريته للتطور الذهني فإنّ المرحلة المتقدمة في التفكير تظهر من جيل 11 فما فوق , حيث يصبح التفكير منطقي وغير محسوس ويصبح الإنسان قادرا على فحص فرضيات بصورة مركبة ومنظّمة ويصير يفكر في أفكار مجرّدة ومثاليات وتفكير بالمستقبل . في هذه المرحلة أيضا ينشغل الإنسان بمعضلات أخلاقية ( דילמות מוסריות ) وبالتفكير بالقيم مثل الحرية والصدق على مستوى كل المجتمع . فرويد وضع خمسة مراحل لتطور الإنسان ولكنّ النقطة الملفتة للنظر أنّه شدّد على التطوّر الأولي وعلى السنوات الأولى لحياة الطفل بحيث أنّ شخصيته تكون كاملة في جيل الثامنة عشرة , كذلك عالم النفس بولبي ومن خلال نظرية "الإتصال" ادعى أنّ إنشاء رابط إجتماعي آمن مع الطفل هو الأساس للتطوّر السليم ومثله قال عالم النفس وينيكوت . لذا يمكن الإستنتاج والقول أنّ علم النفس اليوم يركّز على التطوّر في السنوات الأولى وعلى التربية المبكرة , ولا نكاد نجد تيارا أو نظرية تتحدث عن قفزة نوعية من جيل 18 حتى جيل 20 . لا شك أنّ هناك تطوّر معين خلال سنتين ولكن يمكن القول أن التطور يستمر طول الحياة وذلك بسبب عامل أساسي ومهم وهو الذي يميز بين إنسان عمره 18 سنة وإنسان عمره 40 سنة وهو كمية التجارب الحياتية ( ניסיון חיים ).
في الجانب الأول سنركّز الحديث لماذا هذه السياسة غير منطقية ولا تتماشى مع إستناتجات علم النفس . أولا , هم يدعون أن الشاب يحتاج لفترة حتى ينضج ولكن السؤال الذي نطرحه هنا : كيف عرفتم أنّ جيل النضج هو جيل العشرين ؟! وهل بحوزتكم أبحاث علمية تثبت وجود جيل محدّد وغير قابل للتغيير للنضج ؟ ثم إنّ هناك إختلاف في قدرات الإدراك والتفكير والمهارات الإجتماعية وبنية الشخصية بين أبناء نفس الجيل , فلماذا ينتظر الطالب المتفوق في كل المجالات الإجتماعية والتعليمية وقتا لا معنى له , افتحوا المجال لهذا الطالب وسيريكم قدراته وعندها تحكمون عليه . بالإضافة إلى ذلك , كيف يدّعون أنّ جيل النضج عند الذكر هو ذاته عند الأنثى ؟! الأبحاث أثبتت أنّ هناك فروقا بين مبنى المخ عند الجنسين , وكذلك كلنا يعلم أنّ النضج عند الأنثى يكون عادة أسرع من عند الذكر لذلك فلربما يجب تحديد جيل مختلف للإناث .
ثانيا , إذا كانوا يدعون أنّ أصغر طالب طب يجب أن يكون 20 سنة , فلماذا في مواضيع أخرى علاجية مثل التمريض , علم النفس , صيدلة ومواضيع أخرى كثيرة لا يوجد تحديد للجيل ؟ هل مهنة الطب هي فريدة من نوعها ؟ إذا كانت كذلك أثبتوا لنا , لأنّ البينة على من ادعى وهذا أحد أسس البحث العلمي كذلك . ثالثا , لماذا في بعض الجامعات هناك تحديد للجيل وفي جامعات أخرى لا يوجد تحديد للجيل ؟! هذا إن دل على شيء فإنما يدل على سياسة عنصرية عشوائية تحاول منع الطلاب العرب من الوصول إلى مقاعد الطب بسهولة , فهل يُعقل أنّ طالب الجامعة العبرية مُهيأ لدراسة الطب في حين أنّ طالب جامعة تل أبيب يحتاج لفترة حتى ينضج ؟! وهل يُعقل أنّ هناك حالات نفسية مختلفة في نفس الدولة ولذا نجد اللا توافق بين الجامعات ؟! هذا يقول إذاً أنّ هذا التحديد لا ينبع من فقدان الجهوزية النفسية وإنّما لأسباب سياسية كما يبدو .
رابعا , ظاهرة تحديد الجيل هي أكثر وسعا مما نتخيّل وهي لا تنحصر فقط في التعليم ولكن يمكن أن نصادفها في كثير من إقتراحات العمل وأحيانا كثيرة يكون الجيل المحدّد أكبر , وكثيرا ما نستصعب ويستحيل على العاقل أن يجد علاقة منطقية بين العمل وتحديد الجيل , وأحيانا أخرى تُضاف إلى هذه العقبة عقبة قاصمة أمام الشاب العربي وهي الخدمة في الجيش وبذلك وكأنّهم يقولون لا نريد عربا في هذا العمل .
لكن الجانب الثاني للقضية هو هل الطلاب العرب مؤهلون فعلا للدخول إلى الجامعات في أي موضوع كان وليس حتما في موضوع الطب ؟ إن كان طلابنا فعلا مؤهلين فلماذا نشهد ظاهرة تسرب لا مثيل لها في العالم العربي عادة ؟ ولماذا يشهد الطالب العربي صعوبات لا حصر لها في سنوات التعليم وربما رسوب سنة أو أكثر ؟ المشكلة الأولى هي في نظام التعليم المدرسي الرقيق فليس هكذا هم أحفاد محمد ! الطفل يبقى طفلا حتى جيل متأخر نسبيا وربما هذه إحدى تأثيرات التربية الروسيانية* , فيبقى يشاهد أفلام الكرتون ويضحك ويمرح ويلهو دون تنمية الشخصية الإسلامية , العقلانية , والقيادية فيه منذ الصغر , وبذلك يتخرّج الطالب العربي من ثانويته مع تفكير سطحي غير نقدي وغير منتج , وربما يكون ساذجا وبريئا بعض الشيء . هذا النظام التعليمي هو ليس من بنى القادة الشباب أمثال أسامة بن زيد وليس هو من يبني الرجال البواسل . ولكنّ المشكلة التي تُضاف إليها هي أنّ التربية المحيطة بالطالب ( العائلة مثلا , حركات إجتماعية وإصلاحية ) في أغلب الأحيان لا تعوّضه النقص المدرسي , فيصل الطالب إلى السنة الأولى الجامعية فيصيبه وابل من الصدمات وربما لا يستطيع الصمود أمامها , ويدخل برجله اليسرى وهو ضائع بين تخصص وآخر . لكن يجب أن نؤكّد أنّ هذه المشاكل الموجودة عندنا هي أيضا من صنع النظام الإسرائيلي ولذا فلا يحقّ لهم أن يستعملوها كحجة واهية لتحديد جيل للقبول , وبالمقابل واجبنا أن نعي هذه التربية الرقيقة فنقطع الطريق على كل من يدّعي أنّ الطالب العربي يحتاج إلى فترة من النضوج .
لذلك المشكلة الجوهرية تكمن في أنّ النظام العربي والإسلامي لا يتلائم مع النظام الإسرائيلي رغم كل هذه السنين من محاولات التوفيق بين الإثنين . وفقا للنظام العربي والإسلامي , فإنّ الزواج هو المؤسسة الشرعية الوحيدة ولا يوجد مصطلح "الصديقة" , وبما أنّ الزواج في هذه الأيام مرتبط عادة بعرض عدد من الممتلكات ( مثل شهادة جامعية أو مهنة مستقرة , بيت جاهز وغيرها ) على أهل العروس حتى يقبلوه زوجا لإبنتهم , فهنا يحدث الصراع لأنّ النظام الإسرائيلي هو نظام يعمل على مهل أما الإنسان العربي فإنه منشغل في ترتيب أموره للسير وفقا للمتّفقات الإجتماعية وهي الزواج , أما كثير من أبناء الشعب اليهودي لا يهمهم متى ينهون تعليمهم ومتى يتزوجون لأنّ الصديقة حاليا تكفيهم ولذا فإنّهم ليسوا في ضغط مستمر .
أما فيما يتعلق بمقابلات الطب ( المور والمركام ) فهي تزيد الطين بلة ببساطة , وهي بدعة إستحدثتها دولة إسرائيل لكي تنخّل الطلاب المتسجّلين للطب ولتمتلك القوة في التحكم بمصير كل طالب وبمصير كل فئة . على سبيل المثال , إمتحان المور يتكوّن من قسمين أساسيين : الأول يوم خاص بتعبئة إستمارات والثاني يوم خاص لسلسلة مقابلات . القسم الأول ينقسم إلى قسمين أيضا : الأول وهو إستمارة عن حياتك الشخصية والثاني وهي إستمارة تحوي مُعضلات أخلاقية ( דילמות מוסריות ) . أما قسم المقابلات فيتكون من ثماني محطات : قسم منهن مع مجموعة وقسم لوحدك في مقابلة وجها لوجه وقسم آخر لوحدك مع ممثل يستدعي منك أن تمثّل معه ( סימולציה ). بعد الإمتحان بشهر تقريبا يبعثون لك إجابة إما بالقبول أو الرفض أو الإندراج في قائمة الإنتظار , ولكن السؤال الذي يُطرح هو كيف سيعرف الطالب أين نقطة ضعفه وأين كانت مشكلته إن كان الإمتحان يحوي كل هذه المركبات والجواب لا يحوي علّة عدم القبول ؟! هل هذه تجارة بأموال الناس علما أن تكاليف الإمتحان تزيد عن الألف شيكل أم أن هذه سياسة للماطلة بمصير الطالب العربي علما أنّ الإمتحان هو سنوي ؟!
ثانيا , السؤال التالي هو ما هو مدى قدرة هذا الإمتحان على تنبّؤ قدرات الطالب ( מהימנות של המבחן ) وإمكانيات نجاحه المستقبلية ؟ من المعروف أنّ هناك أخطارا كثيرة تحيط بأداة المقابلات منها : الطابع الأولي ( רושם ראשוני ) وهو الطابع الذي يتلقّاه الممتحن من أول نظرة ولكن كثيرا ما يكون مُغّلطا لأنّ الطالب في أول دقيقة يكون ربما مرتبكا وإما لم يدخل بعد في جو المقابلة . بالإضافة إلى ذلك , كل العوامل التي تحيط بالممتحن والتي يمكنها أن تؤثّر على مزاجه من شأنها أن تغيّر النتائج , فمثلا إن انكسرت كأسا في وقت المقابلة فإنّ عصبية الممتحن تؤثّر على نتائج التقييم وربما على نفسية الطالب نفسه , ومثال آخر هو إذا كان الطالب السابق أحسن قدرات فإنّ ذلك يجعل التقييم نسبي للسابق فيأخذ تقييما أقل إن كانت قدراته أقل من سابقه .
ثالثا , مشكلة أساسية تواجه الطالب العربي بالذات في مثل هذه المقابلات هي عدم التمكّن من الحديث باللغة العبرية بطلاقة , وعلى كل حال مهما بلغت قدرة الطالب العربي في الكلام فإنّها لن تتجاوز مستوى لغة الأم . هم يدعون أنّ اللغة لا تؤخذ بالحسبان عند التقييم ولكن نقول أنه يكفي التأثير النفسي للغة , فعندما يشعر الطالب العربي أنّ الآخرين يستطيعون التعبير عن أنفسهم بسلاسة فإنّ هذا يعمل حاجز خوف وربما يحطّم آمال الطالب من البداية . أضف إلى ذلك , فإنّ الثقافة اليهودية ( תרבות ) والعادات تختلف عن الثقافة العربية ومن أجل فهم ثقافة الغير يحتاج الطالب لمعاشرة الشعب الآخر وقتا يسيرا .
ومن هنا يمكن التلخيص بأن نقول , أنّ هذه العقبات الثلاث "تحديد جيل القبول حتى العشرين , المور والمركام" لا تحظى بتأييد في عالم النفس بل عليها إمتعاضات كثيرة , وهي تنمُّ عن تمييز وتفضيل لصالح أبناء الشعب اليهودي , ولكن يجب الإنتباه أيضا إلى جهوزية الطالب العربي للتعليم الجامعي .

يتسائل كثير من المسلمين وغيرهم ,  لماذا يتجرّد المعتمرون والحجاج من ملابسهم فيرتدون أبسط الثياب ؟! وما هي الحكمة والغرض من هذا الطقس الديني وما هي آثاره على النفس الإنسانية ؟! وما هي إسقاطاته على العلاقات الإجتماعية ؟! والحقيقة أنّ الأمر يظل مبهما حتى يدخل في واقع حياة الإنسان وعندها يعرف الشخص ضرورة هذا اللباس وفائدته الملموسة .
لنأخذ تجربة السجن المصطنع المشهورة لعالم النفس فيليب زيمباردو لكي نفهم الفكرة : وفقا للتجربة التي جرت في جامعة ستانفورد سنة 1971 , قام زيمباردو بتقسيم جمهور المشتركين إلى سجّانين أو مسجونين بصورة عشوائية , وشدّد على تقليد الوضع الطبيعي بكل أبعاده إن كان في لباس السجّانين والمسجونين وإن كان في مبنى السجن وإن كان في الأدوات التي حصل عليها المشتركون , إلا أنّ المذهل في الأمر أنّ السجّانين قاموا بالتنكيل بالمسجونين رغم معرفتهم أن هذه مجرد تجربة , وكذلك فإنّ المسجونين أنفسهم أظهروا بوادر إكتئاب وضغط نفسي رغم درايتهم أنهم في سجن مصطنع . يجدر الإشارة إلى أنه تم إيقاف التجربة الفظيعة بكل معنى الكلمة بعد ستة أيام , ومثل هذه التجارب لا تحظى بموافقة لجنة الأخلاق ( ועדת אתיקה ) في هذه الأيام.
فما هو تفسير هذا التصرف الغير منطقي للناظر فيه ؟! وما الذي دفع بمن يعلم أنه في تجربة لأن يتصرف وكأنه في وظيفة رسمية ؟! الجواب يكمن في أنّ الإنسان الناظر يختلف إختلافا جوهريا عن الإنسان المُشترِك , فذاك الذي دخل في التجربة ولبس ثياب السجّان أو المسجون وشعر أنّه في سجن حقيقي , فإنه في حالة نفسية مختلفة عن المشاهد عن بعد . المصطلح العصري لهذه الحالة يسمّى بالإنخراط أو الإندماج في الوظيفة أو الدور ( כניסה לתפקיד ) وهو يعني أن تعيش الدور الملقى عليك بكل تفاصيله من ناحية شعورية وتنفيذية.
نأخذ أمثلة أخرى من الحياة اليومية ونقول إنّ العامل المشترك لهذه الأمثلة كلها هو الزي الموحّد الرسمي , ولكنّ هذا الزي على بساطته فإنّه يساهم مرارا وتكرارا في الإنخراط في الوظيفة . المثال الأول هو مثال اللواتي يصفهنّ الأدباء والشعراء بملائكة الرحمة لأنهن بيض الثياب , نعم نحن نتحدّث هنا عن فئة الممرضات والممرضين والأطباء والطبيبات الذين يتميزون عن غيرهم بلباس موحّد مميّز فلا يكاد يختلِف كبير أو صغير في تشخيصهم . هذا اللباس يرمز إلى الطبيب المساعد , المخلص لعمله , المخلّص لمريضه من سقمه والمعالج المؤهل لفهم داء المريض ومن ثم تقديم الدواء . المثال الثاني هو مثال الجيش العسكري , فلا يمكن أن ترى جنديا واحدا يخرج بلباسه عن المفهوم ضمنا , وأمثلة أخرى كثيرة في هذا الصدد مثل : المحامون , القضاة , طلاب المدارس , وغيرها من الألبسة المتفق عليها في إطار المجتمع الضيق أو الرحب كلباس الإحرام في إطار الأمة الإسلامية .
إذا ما عدنا إلى فلسفة الإحرام فإننا نجد عدة تفسيرات وإسقاطات نفسية لمثل هذا اللباس الموحّد المميز . أولا, لباس الإحرام يمتاز بلونه الأبيض ومن يظن أن ليس لهذا اللون تأثير ضمني على النفس الإنسانية فإنّ تفكيره في منئ عن الحقيقة , لأنّ الحقيقة أن اللون الأبيض عندما تراه محيط بجسدك وترى الآخرين حولك في لونهم الأبيض , فإنه يطلق إشعاعات قوية إلى نفسك وروحك بأن يا نفس كوني بيضاء كلباسي , وأن يا قلب تحرر من سوادك وحقدك وضغينتك إلى بر الطهر والنقاء والصفاء , وأن يا إنسان هذه ورقة جديدة بيضاء تلفّ جسدك فأحسن فهمها وتقديرها ولا تملئها بالخطايا المنتنة الموسخة ! يمكن أن نقول أنّ هذا الرابط العجيب هو رابط الروح والنفس بالجسد ورابط العالم المادي بالعالم الروحاني , ولهذا نحن نتكلم هنا وفقا للفرضية أنّ بين الروح والجسد هناك تأثير ثنائي متبادل , وبنظري فإنّ هذه الفرضية بدأت ترجع إلى العلم بعد غيابها في القرن الماضي وخصوصا في أوروبا بعد عصر النهضة . نعطي مثالا لهذا الرابط في كلامنا اليومي وبالتحديد الدعاء المشهور : اللهم نقّني من خطاياي كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس ! هذا مثال صارخ للتشبيه والمقاربة بين العالم المادي وعالم النفس الروحاني . 
ثانيا, لباس الإحرام هو لباس بسيط يسوّي بين الفقير والغني والملك والخادم والأمير والعبد , ولهذا فإنّه يحطّم جميع الفروقات الإجتماعية الطبقية ويعرض الناس كلهم في شكل واحد , وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على عدل الإسلام وأهمية قيمة المساواة بين أفراده . أنت عندما تشاهد أخاك في هذا اللباس لا تعرف عنه معلومات كثيرة إضافية سوى أنه مسلم وقادم إلى مكة لأداء عمرة أو حج , وعندما تتكلّم مع أخيك تتكلّم معه على أساس فرضية واحدة : أنه مسلم , ولذا فإنك لا تميز من أعلى منك قدرا ومن أقل منك , ومن هنا فإننا نصل إلى النقطة الثالثة , وهي أنّ لباس الإحرام من شأنه أن يقوّي الأواصر الإجتماعية بين المسلمين وبناء الصف المرجو كالبنيان المرصوص وتوحيد الأمة المتفرّقة . هذا الشعور بالمساواة والإنتماء إلى نفس المنبع لا يمنعك من أن تباشر أيا كان يقف أمامك بالحديث , أو أن يتعامل الفقير البائس مع أكبر تجار العالم لأنّ حقيقة كلاهما في هذا الموقف متساوية .
رابعا, لباس الإحرام يُشعر الوافدين إلى الرحمان بفقرهم وحاجتهم وضعفهم أمام الخالق جل وعلا . من طبيعة النفس الإنسانية أنها تحب السكينة والخلود والبقاء والسيطرة , ولكنّ المشكلة أنّ هذه الأوهام بعيدة عن الواقع , وإذا ما أردنا أن نوظّف علم النفس لمصلحتنا فإنّ علم النفس لا يريد ولا يسعى إلى أن يعيش الإنسان في هدوء وخيال مريح , وإنما على العكس من ذلك فإنّه يريد مساعدة الإنسان على مواجهة الواقع وإن كان مرا وتخطي الصعاب ومع هذه المواجهة أن نعيش بتوازن نفسي . غريب حال الناس عندما يتنكّرون لمصيرهم وحالهم المستقبلي ويفضّلون حياة الخيال واللا واقعية . أنت يا إنسان ضعيف أمام الرب وأمام عظمة الكون وهذا ليس سرا وهذا ليس تفكيرا سلبيا لأنّ هذه هي الحقيقة وهذا الضعف هو نسبي ولا يعني إنعدام الطاقات , إذا فالبطولة أن تعرف كيف تستغل قواك وكنوزك العظيمة مع العلم بضعفك أمام الخالق ! أنت يا إنسان حتما ميت في يوم من الأيام لذلك ليس من التفكير الإيجابي الهروب من هذه الحقيقة ونسيانها لأننا عند ذلك نسخّر علم النفس لنسيان واقع الحياة وليس لمواجهة الواقع والتكيف معه والتأقلم مع مره وحلوه . العلم الحديث يتحدّث عن نظرية بإسم terror management theory والتي تقول أنّ التصرف الإنساني مبني على الخوف من الموت . لذا فإنّ لباس الإحرام هنا يلعب دورا مهما بأنه يذكّرنا بحقيقة الحياة ويزيل الضباب عن واقعها , فتراه يقول لنا أنت يا إنسان عبد لله , فقير إليه , تحتاج لرحمته وكرمه وعفوه ورضاه , وربما يقول أحدهم أنّ هذا تمسكن وتذلل وإبطال للثقة بالنفس وإلغاء للشخصية القوية فله نقول : هذه هي الحقيقة والحقيقة المرة خير من الوهم المريح , للإنسان قدرات عجيبة ولكنها محدودة أيضا بحكم كونه عبد لله , فهل لك يا إنسان أن تمنع موتك ؟! هل لك أن تمنع جلطة دماغية أو قلبية ؟! هل لك أن تمنع زلزالا أو تسونامي أو إعصارا أو بركانا ؟! هل لك أن تعرف متى هو يوم موتك وماذا ستكسب غدا ؟! تيار كبير في علم النفس الحديث يدعي أنّ التمركز بإلغاء الألم في الحياة يضاعفه أضعافا كثيرة ويجعله عناء , ولذا يجب أن نفهم أن الألم جزء من الحياة والغرض من العلاج هو لكي نواجه مشاكلنا وآلامنا بحكمة فنحقق أهدافنا المرجوة في هذه الدنيا .
خامسا, لباس الإحرام يعكس نظاما وأيديولوجية إسلامية وحضارة وثقافة دامت قرونا , وهو يعكس قوة نفسية في الظهور أمام كل الناس بلباس مميز مخالف للباس العادي المهندم , ولكن يمكن أن نقول أن الـ conformity  أي الخضوع لتأثير مجموعة المحرمين شديدة ولذا يشعر الفرد بـ de individualization  وهو أن يشعر الفرد بفقدان هويته الشخصية والإمتزاج مع المجموعة . علاوة على ذلك , فإنّ بين كل فئة من الناس تجد رموزا إجتماعية أو دينية أو تربوية متفق عليها إلا أنها غير جلية للناظر من بعيد أو غير ملفتة لنظره , ولذا حتى نفهم ثقافة فئة معينة علينا أن ندخل إلى أعماقها ونعايشها وندرسها لأنّ هذه الرموز تكون عادة مفهومة ضمنا لأبناء الفئة نفسها ولذا فهم لا يتكلمون عنها كثيرا .
سادسا, لباس الإحرام يربطنا بالماضي التليد والمستقبل العتيد . هذا هو هدي رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ونحن عندما نقتفي أثره فإننا لا نتبع ما ألفينا عليه آبائنا وإنما نتبع ما تواتر إلينا من تصرف حبيبنا ورسولنا ونبينا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم . إذا كان محمد عليه الصلاة والسلام هو قدوتنا فإننا سنطيعه وسنأتمر بأمره وسننتهي عن نهيه ونأخذ عنه ديننا وهو في هذه الحالة المثل الأعلى لنا ولذا فإننا دائما نطمح لأن نرقى إلى مستواه . من ناحية نفسية فإنّ هذا الإرتباط ينتج طاقة نفسية لأني ابن أعظم البشر , وكذلك فإنه يحفّز للعمل من أجل الإقتراب من المثل الأعلى . لذلك فإنّ لباس الإحرام يذكّرنا بماضينا وبحضارتنا وبنبع ديننا وهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم , وكذلك فإنّه يزرع الأمل في النفوس ويكشف قوة هذا الدين عندما ترى كل تلك الوفود المتجردة من الدنيا طلبا لرضى الرحمان , ولذا فإنه يرسم مستقبلا مرتقبا لعودة عز الإسلام والمسلمين عما قريب .
سابعا, كما أسلفنا فإنّ للإنخراط في العمل أهمية كبيرة في نجاعته وبمساعدة هذا اللباس الرامز إلى العبادة الفريدة من نوعها يبدأ الإنسان بالتحضّر والتهيأ للعمرة أو الحج وذلك مع أول خطوة وهي الإحرام , ولذا فهي تشكّل عاملا ضروريا للدخول في الأجواء وبالتالي الإنخراط في العبادة العملية بكل أبعادها . بكلمات نفسية , هذا اللباس ينتج لنا priming أي رمز وتحضير لزيادة التكيف والإنسجام مع القادم الجديد .
ثامنا, لباس الإحرام يقول لنا أنه ليست هذه الدنيا هي النعيم المنتظر وليس اللباس الأنيق هو الأهم ولكنّ الأهم هو جوهر الإنسان وقلبه وجوفه وداخله وعقله ويقينه وإيمانه , فهذه هي العوامل التي تأخذه إلى نعيم عالم الخلود وليس اللباس الأنيق ولا السيارة الفخمة ولا القصر الملكي ولا ملايين الدولارات , هذا اللباس الذي يشبه كفن الموت يقول لكل من غرّته الدنيا أنه سيرقد غدا في القبر ولن ينفعه ماله ولا ولده إلا عمله الصالح . من ناحية نفسية الإنسان يحتاج إلى رابط يدوم معه في كل وقت وحين وفي كل مكان وإذا فكّرنا في أي شيء في عالم الماديات فإنّه يعجز عن تلبية هذه الحاجة , ونصل إلى أنّ الرابط الوحيد الذي يدوم هو صلة العبد بخالقه , هذا الرابط يدوم إذا افتقدنا الأهل والأصحاب وإذا افتقدنا المال وإذا افتقدنا نفس الحياة , ولذا كان علينا حتما أن ننميه ونستهلك أنفسنا في تقويته , ولكنّ العجب مما أحدث الناس أنّ أغلبهم نسيه أو يتناساه إما لجهل وإما لفهم خاطئ وإما لتسويف وإما لأسباب أخرى تافهة . المشكلة أنّ النفس الإنسانية تركن إلى اللذة الآنية ولذا كان واجبا أن نسخّر العقل لتنظيم شهوات النفس , وباللغة الفرويديانية علينا أن نسخّر الـ super ego في سبيل ضبط وليس كبت الشهوات الإنسانية , وهذا يعني أن نضعها فيما أحلّ الله ومنعها مما حرّم فليس الإسلام يمنع معاشرة النساء ولكنّه يحث عليها في مؤسسة الزواج وليس يمنع جمع المال ولكنّه يدعو إلى كسب الرزق الحلال وليس يمنع الحب , ولكنّ النقطة المهمة أنّ هذه الأمور لا يجب أن تكون غايتنا الأولى والأخيرة وجلّ إهتماماتنا وإنما هي مهمة ولكن هناك أهم وهو الجانب الروحاني , فكل البشر يأكلون ويشربون وينامون ويتزوجون أما إذا أراد الواحد أن يخلّد ذكره ويصنع تاريخا فعليه أن يبذل طاقة في غير هذه الحاجات الأساسية .
خلاصة القول أنّ لأبسط الأمور هناك تأثير ضمني على النفس الإنسانية ولكننا كثيرا ما نعيش الحالة الإجتماعية دون أن ندرك كيف دخلنا إلى هذه الحالة , وكيف استطعنا فعل المهمة رغم عظمها في نظرنا في مرحلة التوقّع , وكيف استطعنا الخروج من أثر الحالة بكل سهولة . ختاما, في هذه المقالة تمّ عرض بعض الآثار النفسية للباس الإحرام وما هي الحكمة النفسية من ورائه من وجهة نظر مجرّب . والله أعلم .