علم نفس

مدونة تعنى بعلم النفس, يحررها محمود زيد

بسم الله الرحمان الرحيم , الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . إخوتي وأخواتي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , صراحة الواحد منا عندما يقف أمام الجماهير العربية والإسلامية في هذه الأيام يحتار من أين يبدأ وعن أي شيء سيتحدث خاصة وأننا في عصر الثورات والإنفتاح الفكري والصحوة الإسلامية المباركة . ولكني اخترت من بحر العلوم ومن محيطاتها أن آخذكم في رحلة ترفيهية بين صفحات كتاب رب البرية من خلال قراءة نفسية وعلمية علّنا نخرج من روتين وصخب الحياة إلى عالم النفوس المطمئنة . يقول ربنا جل في علاه بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم , بسم الله الرحمان الرحيم : " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ", يقول إبن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : أي : تطيب وتركن إلى جانب الله ، وتسكن عند ذكره ، وترضى به مولى ونصيرا وبالمقابل ماذا يقول العلم الحديث ؟ وماذا يقول الغرب الجاحد عن ما فهمه المسلمون قبل قرون ؟ لقد أشارت الأبحاث الحديثة إلى أن الأشخاص الملتزمين هم أكثر سعادة ومن هنا فإن الغرب يعترف بأفضلية التدين , هذا في الحياة الدنيا فما بالكم بمن ينتظره نعيم الآخرة وسعادتها الأبدية . الإنسان في حياته يحتاج إلى محرك ودافع يعطيه الطاقة والوقود ليستمر في مسيرة تغشاها الصعاب والأتعاب ولكن إذا تواجد ذلك الأمل فإنّ الإنسان يندفع بقوة الهمة والعزيمة تماما كما أن السيارة في مسيرها تحتاج إلى وقود لتتحرك . هذا يرتبط أيضا بتحديد أهداف واضحة ومبادئ ولذا فإن المعالجين النفسيين يسألون أحيانا مرضاهم : كيف تريد أن يذكرك الناس بعد أن تموت ؟ لذلك اليوم من لا يضع نصب عينيه أفقا وأحلاما مستقبليه فإنه يبقى في الوراء وربما تتبعثر شخصيته بين شهوة وأخرى . يعني إذا أردنا أن نأخذ مثالا قضية الأعراس فهل يتصرف الناس وفقا للمركب الإسلامي في شخصيتهم ؟ لا ورب الكعبة ! لا والأنكى من ذلك أنهم صاروا يشغلون الأغاني العبرية ! يعني لا وطنية ولا دين ! بالله عليكم يا جماعة نحن الآن نتكلم عن أشخاص مبعثري الشخصية : تقول أنت مسلم وتخالف الإسلام ؟ تقول أنت عربي وترقص على طرب اليهود ؟ هؤلاء يندرجون تحت مصطلح الفيلسوف جون لوك "لوح أملس" وهؤلاء لن يغيروا في المجتمع شيء لأنهم عاجزون عن تغيير أنفسهم أصلا .
لكن السؤال الذي يطرحه كثير من الجاهلين هو لماذا نضيع أوقاتنا في تحفيظ وحفظ القرآن في عصر ينتشر فيه العلم والمعرفة انتشار النار في الهشيم ؟ إذا كنا أناسا واضحي الأهداف فما هو هدفنا من مشروع الحفظ في عصر التفكير ؟ ( يسأل الكثير ) لكن المشكلة الأدهى أنه عندما يسألنا أحد العلمانيين أو أحد المتفلسفين أسئلة كهذه نقف عاجزين عن الإجابة أو أننا نجيب إجابة غير مقنعة وبذلك لا نكون ممثلين جيدين لحمل الرسالة القرآنية ! أقول أن لحفظ القرآن أثر كبير في النفس الإنسانية وفي تهذيبها وإبعادها عن المنكرات فعندما يذكر الإنسان أن صدره حامل للقرآن يتنبه لعظيم الأمر ويرتدع عن مخالفة أمر ونهي القرآن لأن نفسه اللوامة تمنعه . العلم الحديث يتحدث عن نظرية بإسم הדיסוננס הקוגניטיבי : وفقا لهذه النظرية فإن بني الإنسان يسعون في أغلب الأحيان إلى المحافظة على توازن بين عالمهم النظري والعملي . لتقريب الصورة فإن كل إنسان يخطئ ومن رحمة الله علينا أن جعل في أنفسنا طرقا نستطيع بها تخطي خطئنا والإستمرار في نهجنا السابق فمثلا يقول الإنسان في نفسه : هذا قضاء الله وقدره أو كان هذا الخطأ للحظة غضب وغيرها من التبريرات حتى نحافظ على قوتنا النفسية . بالإضافة إلى ذلك فإن حفظ القرآن يساعد الإنسان على تأكيد وتعميق العنصر الديني في هويته وهو عندها قادر بإذن الله على مواجهة غيره من التيارات الفكرية ومحاججتهم . فكيف سيصمد المسلم أمام المسيحي أو اليهودي أو غيرهم أثناء حوار ديني ؟ ألا يحتاج إلى لغة القرآن للدعوة إلى الإسلام ولكي يظهر عمق ثقافته الدينية ؟ قد يقول أحدهم أحفظ قليلا من الآيات وإذ بي أكبر داعية إلى الله عز وجل ولكن الخلل في هذا الإدعاء أنه يغيب عن أذهاننا أحيانا أن من يقف أمامنا قد يكون أعلم منا بديننا وربما يربكنا في مسألة لم يحيط بها علمنا الضئيل فما أحوجنا إخوتي في الله إلى رفع مستوى الثقافة الدينية وتنمية الفكر الإسلامي وليس عيبا أن نأخذ ما ينفعنا من علوم الغرب ونطوره . أنا أرى أن ضعف ثقافتنا يجعلنا ننبهر بغيرنا وننبهر بآراء مادية وماركسية ما أنزل الله بها من سلطان . أحد المساقات عندنا في الجامعة العبرية كان يحوي 300 طالب وكالعادة فإن أكثر من 90% من طلاب المساق هم طلاب يهود ولكن الغريب في الأمر أن اسم المساق هو : "דת האסלאםאמונה ופולחן" .
لفتة أخرى هي عندما يقول مولانا جل وعلا : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" . نقل البغوي في تفسيره عن الكلبي أنه قال : وَسَطاً ) يعني : أهل دين وسط ، بين الغلو والتقصير ، لأنهما مذمومان في الدين ( . الإنسان يتواجد على محور يمتد من التقصير ويمر بالوسط ويستمر حتى التطرف وأنا أشبّه هذا الحال بمبنى الكرة الأرضية فالقطب الشمالي والجنوبي برد قارس أما في منطقة الإستواء فالشمس دافئة والأمطار غزيرة والعيش وفير وهذا هو تجسيد لحال المسلمين المرتقب إذا ما ساروا على نهج الوسطية . أيضا ذلك ينطبق في الحياة اليومية وكلنا يعرف القول المشهور : "كل شيء لو زاد عن حده نقص" . كذلك الأمر في عالم النفس : نحن نريد أبنائنا جريئين ولكن ليسوا وقحين ولا خجولين , نحن نريد أبنائنا أكرم الناس لكن لا نريدهم مبذرين ولا بخلاء , نحن نريد أبنائنا مهذبين ولا نريدهم خنوعين ولا متمردين .
وقفة أخرى مع آية في سورة البقرة حيث يقول جل من قائل : "إن لا الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " . كثير من الناس يظنون أن الحياء هو الخجل ولكن في الحقيقة إن الخجل عكس الحياء ؟ فما هو الحياء ؟ وما هو الخجل ؟ سبب الخجل هو شعور بالنقص داخل الإنسان , فهو يشعر أنه أضعف من الأخرين وأنه لا يستطيع مواجهتهم حتى ولو لم يفعل شيئاً خطأ , وهذا مختلف تماماً عن الحياء فالحياء شعور نابع من الإحساس برفعة وعظمة النفس فكلما رأيت نفسك رفيعة وعالية كلما إستحييت أن تضعها في الدنايا فمن عنده حياء يستحي أن يزني أو يكذب لانه لا يقبل أن تكون نفسه بهذه الدنايا والخجول إذا أتيحت له الفرصة دون أن يراه أحد لفعل إذا فالخجل نقطة ضعف في حياة الإنسان ، لأن الإنسان يخجل من المطالبة بحقه أو أن يدلي بكلمة حق . ولكن كيف يتفق هذا الكلام مع الآية الكريمة , فالله سبحانه وتعالى يقول أنه لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ؟ إذا رجعنا إلى كتب التفسير نرى أن ابن كثير يقول في معنى هذه الآية :" أنه تعالى أخبر أنه لا يستحي أي لا يستنكف وقيل : لا يخشى أن يضرب مثلا ما , أي مثل كان بأي شيء كان صغيرا كان أو كبيرا " وهكذا نرى التوافق والتلاحم لا بل والإنسجام ما بين العلوم الإنسانية وكلام رب البرية . لكن إذا نظرنا إلى واقع الأمة العربية والإسلامية فإننا نلمس في ظاهرها خجلا ولكن في باطنها هناك فقدان للحياء . ماذا يعني هذا الكلام ؟ إذا نظرت إلى الأمة تراها أمة محافظة لا تقبل التغييرات في العادات والتقاليد فعلى سبيل المثال إن مشى الرجل وزوجته وأمسكو بالأيادي ترى الناس من خجلهم يستنكرون الفعل , في حين أن الصداقة بين الذكر والأنثى والعلاقات الخارجة عن الشرع منتشرة ومستفحلة في مدارسنا وشوارع قريتنا إلا أنها تبقى مخفية عن السطح لتتلائم مع طبيعة العقول العربية المحافظة . إذا ما هو الحل ؟ الحل هو أن تستغل طاقات الشباب والشابات وأن تفرّغ فيما يخدم إزدهار المجتمع الإنساني , الشباب من أهم عناصر المجتمع الإنساني فإما أن نوظّفهم في أماكن تليق بهم وإلا فلننتظر تحول كل تلك الطاقات العظيمة إلى وابل من الدمار . في ظل الثورات العربية , في الفترة الأخيرة نشهد وعيا وحراكا سياسيا ملحوظا في العالم العربي بأجمعه ولكن ما ينقصنا حتى اليوم هو حراك ديني وإحياء علوم الدين كما فعل الغزالي رحمه الله .
على القرآن والسنة أن يكونا نهج حياتنا وغذائنا ودوائنا , بدلا من تعاليم الغرب التي نتلقّنها من الإعلام الفاسد وإذا أردنا أن نقول أشياء عن تأثير الإعلام فلن ننهي حتى الصباح . زبدة القول أن القرآن الكريم يجب أن يرتبط بكل مجال حياتنا فكيف يكون ذلك ؟ علم النفس الحديث يتحدّث عن "الربط الكلاسيكي" "התניה קלאסית" وهي أن تربط عاملا حياديا بعامل آخر إيجابي فيصير العامل الحيادي إيجابيا هو كذلك . إذا أردنا أن نأخذ مثال حفلنا اليوم فهو يعكس هذه النظرية بأبهى صورها . كيف ذلك ؟ عندما يتغنّى الشبل من أبنائنا بقرائته للقرآن في الطبيعة وبين الأشجار وفي بيئة العالم الحر الطليق يصبح القرآن عنده مرتبطا بالراحة النفسية وبالأجواء الإيجابية المريحة , ولا ينحصر القرآن عنده بين جدران غرفته . ولذا علينا أن نتنوع في العبادات حتى لا تسئم النفوس وليس القصد أن نتنوع في الفرائض وإنما بالأمور التي فيها فسحة وما أكثرها , أنا أسمي هذا التنوع "التفنن في العبادة" وما أحوجنا لهذا التفنن في رمضان المقبل علينا فيوم أقرأ القرآن بعد صلاة العصر في المسجد ويوم آخر بعد الفجر في حديقة بيتي . ولك الحرية أن تتفنن وتبدع بعبادتك كيفما هداك الله .
الأمر الأخير وبه أختم إن شاء الله وهو أنه علينا أن نمنح أبنئنا مكرمات من فترة إلى أخرى ليس بكثافة وليس بصورة شحيحة وإنما وفقا لمنهج الوسطية كما أسلفت سابقا . هذه المكرمات من شأنها أن تكون مزوّدا للطاقة ومحفّزا للإستمرار وهي بناء على نظرية أخرى في علم النفس "התניה אופרנטית" والتي تدعي أن إعطاء تشجيع مع إتمام عمل معين فإن ذلك يزيد الإنتاج والعمل , والحمد لله فإن هذا ينطبق اليوم أمام أعيننا في حفل تكريم أبنائنا وبناتنا .
خلاصة القول أن الكلام يحلو معكم والعلم يزدهر عند إنصاتكم والعقل يتغذّى عند تفكّركم فما أحسن هذه الحفلات وما أطيب ريحها , وأختتم كلامي بشعر الإمام الشافعي رحمه الله عندما قال : " كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي... واذا ما ازددت علما زادني علما بجهلي " . تواضع أخي في الله , فالتواضع يوّلد العمل والرضا عن النفس ناتجه الركود والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .